الهدوء "المعاني السامية"

الهدوء
إني أعيذكم بالله أن تكونوا حادين في انفعالاتكم أو ملتهبين في مشاعركم أو متوترين,متشنجين, صاخبين قلقين ثائري الغضب, ولست أحسبكم كذلك على أي حال وإنما أتحدث إليكم في هذا الشأن لشدة خشيتي عليكم من العصبية والانفعالات المفرطة.
أظن أنكم سمعتم أحدًا يصف آخر بأنه "رايق", هل فكرتم في كلمة "رايق" ومشتقاتها من قبل؟ إنها أنسب وأبلغ تعبير عن معنى الهدوء النفسي, الرائق في أصل اللغة هو الصافي , فكأن التعبير العامي استخدم هذا اللفظ ليشير إلى أن الهدوء صفاء لا تشوبه ولا تعكره الانفعالات المفرطة.
صحيح أن الغضب و القلق وسواهما من الانفعالات جزء من ذواتنا كما وأنها بشكل طبيعي انفعالات ضرورية لبقاء الجنس البشري وحثه على العمل والاستمرار والتقدم , ولكن يجب أن تكون هذه الانفعالات في حدودها الطبيعية أي دون افراط ولا تفريط ويجب أيضًا أن يكون التعبير عنها بطريقة انسانية ناضجة.
إن للهدوء أثره الجاذب أيضاً إذ إن المظهر الهادئ الذي يتجلى في قسمات الوجه وتعبيراته قادر على استقطاب محبة الآخرين واعجابهم, ولكن بشرط أن يكون هذا الهدوء معبراً بصدق عن سكينة داخلية فكأنما للهدوء هالة من الاتزان تحيط به من حوله تتسلل إلى نفوس الآخرين و تبعث في النفس الاحساس بالرقي والجمال .
هنا يجب علينا الانتباه إن الهدوء ليس برودًا ولا فتورًا ولا همودًا وعدم اكتراث بالناس ولكنه استرخاء داخلي ينعكس على التعبيرات الخارجية.
إن الهدوء يقلل من استنفاد الطاقة واستغراق الوقت وهدر القدرات وهذا ما يجعلنا قادرين على توجيهها إلى ما ينفع بعكس الغضب الذي يمكن أن ينسف جهد عقود طويلة بلحظة واحدة ويرهق القدرات ويستنزفها.
اسمعوا لي بآذان القلب و العقل العصبية ضد الهدوء ولئن بحثنا عن جذرها اللغوي لوجدناه (عَصَبَ) عصب الشيء عصبًا :- شده وعصَّب :- شد بالعصابة , فكأن معنى العصبيه مشتق من الشد! وتلك فعلاً هي حقيقة ذوي المزاج الحاد العصبي فأوتار نفوسهم مشدود دائماً بين منبه خارجي وما يرغبون بتحقيقه , وينجم عن عملية الشد هذه حالة توتر , وهل يولد التوتر إلا عن شد جسم من اتجاهين ؟
ألا يقول علماء الفيزياء في معنى التوتر أنه الحالة الانفعالية لجسم مشدود من طرفيه؟!

إذا أرنا أن نفهم سلوك العصبيين ما عليك إلا أن تنظر حولك وحواليك ولن تبذل الجهد العسير لتعثر على شخص عصبي, راقبه وستجد أنه يثور لأتفه الأسباب ودائماً ما تكون ردة فعله أكبر من المثير نفسه , يبدأ بالصراخ وتعبيرات وجهه تنم عن التشنج وألفاظه القاسية تتحدر من شفافهه المتوترة كأنها الحمم البركانية وكل هيئته تشي بالعداوة والتحفز للقتال وتشير إلى استعداده لاتخاذ قرارات رعناء ويعيش لحظة الهياج بكل مشاعره مما يفقده المنطق ويتصور الحل الوحيد للمشكلة في القطع والبتر.
وإذا أحس العصبي ما يهدد كيانه وحساسيته المبالغ بها نحو كرامته ستلمسون حجم الكره الذي يعتريه ويصبغ كلماته وملامح وجهه وحتى نبرة صوته وسترون أن العصبي يبدأ باستحضار خبرات وأحداث مؤلمة قد تكون منسية حالة الهدوء والصفاء.
إن للعصبيين حجة دائما ما يدافعون بها عن ذواتهم أمام أنفسهم أمام عائلاتهم وأمام الناس, حيث يدّعون طبية قلوبهم رغم عصبيتهم , وإذا سألتهم ما الدليل؟ سيقولون حالة الندم التي تعترينا بعد لحظات الهياج الفورة, وهكذا قد صدق كثير من الناس هذا الإدعاء لكثرة تكراره حتى ربطوا بين العصبية وطيبة القلب مع أن الأخيرة مدعاة للسكينة وليس للرعونة, فالعصبية ثورتها تقترن بالكره والشك والتشاؤم والهجوم والإيذاء المعنوي والمادي, فأي طيبة قلب هذه.
صاحب النفس الهادئة المتزنة يكون عادة ذا صوت خفيض بينما يعلو صوت العصبي ,ويغلب أن يسود تخاطب هادئ في البيئات الراقية المتسمة بالاحترام , بينما تعلو الأصوات وتتقاطع في بيئات وحواري وشوارع البيئات ذات المستويات المتدنية التي لا تعرف الجمال ولا تقيم للأدب والحياء وزنًا.
كلكم تعرفون هذه الآية(( واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)) هل لاحظتم لقد استخدم عبارة (اغضض من صوتك) ولم يستخدم عبارة (اخفض من صوتك)ولو أنكم رجعتم إلى القاموس لوجدتم أن للفظ الغض دلالات متعددة ذات صلة , فالغض هو الطري النضر الرقيق الناعم وغض الشيء أنقصه , إذاً تدعو الآيه ليس فقط إلى خفض الصوت بل وجعله هادئا رائقا مهذباً كذلك.

اسمعوا ما قاله بيدبا الفيلسوف على لسان دمنة في كتاب كليلة ودمنة:- " زعموا أن ثعلبًا أتى أجمة فيها طبل معلق على شجرة , وكلما هبت الريح على أغصان تلك الشجرة حركتها فضربت الطبل فسمع له صوت عظيم فتوجه الثعلب نحوه لأجل ما سمع من عظيم صوته فلما رآه ضخماً ايقن في نفسه كثرة اللحم والشحم فعالجه حتى شقه فلما وجده أجوف لا شيء فيه قال" لاأدري لعل أفشل الأشياء أجهرها صوتاً وأعظمها جثة""
هذه حقيقة في الحياة إن الأجوف الفارغ يصدر أعلى الأصوات و إن ضخامة الصوت تتناسب طردياً مع حجم الخواء الفكري والعاطفي , فإذا كان الطبل من الأشياء التي تصدر أعلى الأصوات هذا لأنه غشاء مشدود إلى جسم أجوف وهذا هو حال أكثر الناس صراخًا وأعلاهم صوتًا أعصاب مشدودة إلى نفس خاوية وعقل أجوف.
يمكنكم أن تحققوا الهدوء إذا نظرتم إليه على أنه شي مرغوب ومهم تسعون إليه وتنظرون إلى السلوك العصبي على حقيقته فهو وإن كان يحقق أحيانا فوائد آنيّة تواتيه نتيجة الصراخ والتهديد فإن سلوكه لا يأتى على المدى الأطول إلا بالكراهية وإن معظم العصبيين يخفون خلف وجوههم المكشرة عن أنيابها وأصواتهم المجلجة نفساً خائرة ضعيفة ولو كانت نفسًا واثقة مطمئنة لكانت أكثر هدوءً واتزانًا
إذا لم تجد هذه القناعات في ابعاد المرء عن السلوك العصبي وتوجيهه إلى الهدوء فالأجدى مراجعة الطبيب والعلاج بالأدوية لأن ذلك أفضل و أقل كلفة من عواقب العصبية على ذات الشخص وعلى الآخرين . (( الموضوع السابق مقتبس من كتاب المعاني السامية للدكتور ابراهيم كشت))